كتب المستشار: يوسف فريد شوقي المحكم التجاري والعرفي
يُعد القضاء العرفي أحد أقدم وسائل حل النزاعات في مصر، خاصة في المناطق الريفية والصعيد، حيث تعتمد المجتمعات التقليدية على الأعراف والتقاليد أكثر من القوانين المكتوبة. وعلى الرغم من الدور الفعّال الذي يلعبه هذا النوع من القضاء في إنهاء النزاعات بسرعة، إلا أنه يثير العديد من التساؤلات حول مدى توافقه مع القوانين الرسمية، خصوصًا في القضايا الجنائية التي تتطلب إجراءات قانونية صارمة.
ما هو القضاء العرفي؟
القضاء العرفي هو نظام تسوية النزاعات من خلال جلسات صلح يقودها شيوخ القبائل وكبار العائلات، حيث يعتمد على الأعراف المتوارثة بدلاً من النصوص القانونية الرسمية. يتمتع المحكمون العرفيون بمكانة اجتماعية مرموقة، مما يمنحهم القدرة على فرض الحلول المقترحة، التي غالبًا ما تُقبل من قِبل الأطراف المتنازعة احترامًا للتقاليد أو خوفًا من العواقب الاجتماعية.
آليات عمل القضاء العرفي
يعتمد القضاء العرفي على جلسات المصالحة التي يتم فيها الاستماع إلى الأطراف والشهود، ثم يصدر الحكم بناءً على الأدلة والتقاليد المتبعة. ومن أبرز الأحكام العرفية: • تقديم الكفن: وهو إجراء يُستخدم في قضايا الثأر كرمز لطلب العفو والمصالحة بين العائلات. • دفع الدية: مبلغ مالي يدفعه الجاني أو عائلته لأهل الضحية في قضايا القتل، وقد تصل قيمتها إلى ملايين الجنيهات حسب الظروف الاجتماعية والاقتصادية للأطراف. • التعويضات المالية: تُفرض في القضايا المدنية والتجارية لضمان حقوق المتضررين دون اللجوء إلى المحاكم.
ضمانات التنفيذ في القضاء العرفي
على الرغم من أن أحكام القضاء العرفي ليست ملزمة قانونيًا، إلا أن هناك آليات تُستخدم لضمان تنفيذها، منها: 1. محاضر الجلسات العرفية: يتم توثيق الجلسات رسميًا، وتوقيع جميع الأطراف على الاتفاق لضمان الالتزام به، وقد يُستخدم هذا المحضر كدليل أمام الجهات الرسمية عند الضرورة. 2. وصلات الأمانة: تُستخدم لضمان تنفيذ الأحكام المالية، حيث يتم توقيع المدين و المدان على وصل أمانة يمكن اللجوء إليه قانونيًا إذا أخل اي طرف بالاتفاق. 3. التأثير الاجتماعي: يلعب الضغط الاجتماعي دورًا رئيسيًا في تنفيذ الأحكام، حيث يُنظر إلى من يخالف القرارات العرفية على أنه خارج عن التقاليد والقيم المجتمعية.
الموقف القانوني من القضاء العرفي
يختلف موقف القانون المصري من القضاء العرفي، حيث لا يوجد اعتراف رسمي به كبديل للقضاء الرسمي، خاصة في القضايا الجنائية. ومع ذلك، هناك بعض الجوانب التي قد تتوافق مع مفهوم التحكيم الوارد في القانون المصري رقم 27 لسنة 1994 بشأن التحكيم في المواد المدنية والتجارية، بشرط وجود اتفاق مكتوب بين الأطراف.
إلا أن القانون لا يعترف بأحكام القضاء العرفي في القضايا الجنائية، مثل القتل والاغتصاب وهتك العرض، حيث لا يمكن استبدال العقوبات الجنائية الرسمية بأحكام عرفية. ومع ذلك، فإن التصالح العرفي قد يُستخدم كعامل لتخفيف العقوبة في بعض القضايا إذا تم تقديمه للمحكمة كدليل على تنازل المجني عليه أو ذويه عن الحقوق المدنية.
وجهات النظر حول القضاء العرفي
هناك تباين واضح في وجهات النظر حول القضاء العرفي، حيث يرى البعض أنه أداة فعالة لتحقيق العدالة السريعة، بينما يرى آخرون أنه قد يكون بابًا لاستغلال النفوذ وغياب العدالة.
المؤيدون: يعتقدون أن القضاء العرفي يساعد في تخفيف العبء عن المحاكم التي تعاني من تراكم القضايا. • يُساهم في منع النزاعات من التصاعد إلى أعمال عنف وثأر دموي، خاصة في المناطق الريفية. • يتميز بالسرعة والمرونة مقارنة بالإجراءات القضائية الرسمية التي قد تستغرق سنوات.
المعارضون: يرون أن القضاء العرفي لا يحقق العدالة الكاملة، حيث يعتمد على التقاليد التي قد تكون ظالمة لبعض الأطراف، يُمكن أن يكون وسيلة لإفلات الجناة من العقاب، خاصة في القضايا الجنائية الكبرى، بعض المحكمين العرفيين يستغلون النظام لتحقيق مكاسب مالية، مما يُفقد القضاء العرفي مصداقيته.
رأي المستشار يوسف فريد شوقي
في بعض القضايا الحساسة، مثل الابتزاز والانتهاكات والتعرض للأذى، يلعب القضاء العرفي دورًا مهمًا في حل النزاعات بسرعة وفعالية، مما يساعد على منع إراقة الدماء واحتواء المشكلات قبل تفاقمها. كما أنه يخفف الضغط عن أقسام الشرطة والمحاكم، نظرًا لسرعته ومرونته مقارنة بالإجراءات القانونية الرسمية.
إلا أن نجاح القضاء العرفي يعتمد بشكل أساسي على فِراسة المحكم وهيبته ونزاهته، حيث يكون لاحترامه وتأثيره الاجتماعي دور أساسي في إلزام الأطراف بقبول الحلول المطروحة. ومع ذلك، فإن انتشار بعض الأشخاص الذين يستغلون القضاء العرفي لتحقيق مكاسب شخصية يمثل تحديًا خطيرًا، حيث يحولونه إلى تجارة أو مهنة بدلًا من كونه وسيلة لتحقيق الصلح والعدالة.
كما لا يمكن إغفال الدور المهم لرجال الشرطة، الذين يُظهرون تعاونًا كبيرًا في تسهيل انعقاد الجلسات العرفية، من خلال منح التصاريح والإشراف على لجان المصالحات، لضمان تحقيق العدالة وعدم الإضرار بحقوق أي طرف
0 تعليقات